فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ}
أعقبت جملة {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} [التحريم: 9] الآية المقصود منها تهديدهم بعذاب السيف في الدنيا وإنذارهم بعذاب الآخرة وما قارن ذلك من مقابلة حالهم بحال المؤمنين، بأن ضرب مثلين للفريقين بنظيرين في حاليهما لتزداد الموعظة وضوحا ويزداد التنويه بالمؤمنين استنارة.
وقد تقدمت فائدة ذكر الأمثال في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} في سورة [البقرة: 17].
وضربُ المثل: إلقاؤه وإيضاحه، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما} في سورة [البقرة: 26].
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
وهذا المثل لا يخلو من تعريض بحث زوْجي النبي على طاعته وبأنّ رضى الله تعالى يتبع رضى رسله.
فقد كان الحديث عن زوجتي النبي قريبا وكان عملهما ما فيه بارقة من مخالفة، وكان في المثلين ما فيه إشعار بالحالين.
وتعدية ضرب باللام الدال على العلة تفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخول اللام.
فمعنى {ضرب الله مثلا للذين كفروا} أنه ألقى هذا التنظير لأجلهم، أي اعتبارهم بهم وقياسسِ حالهم على حال الممثل به، فإذا قيل: ضرب لفلان مثلا، كان المعنى: أنه قصده به وأعلمه إياه، كقوله تعالى: {ما ضربوه لك إلا جدلا} [الزخرف: 58].
{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الروم: 58].
ونحو ذلك وتقديم المجرور باللام على المفعول للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا.
فمعنى {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط}، أن الله جعل حالة هاتين المرأتين عظة وتنبيها للذين كفروا، أي ليُذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارِف فلا يحسبوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بيتِه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيده بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيهما رسولي رب العالمين.
ومناسبة ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط دون غيرهما من قرابة الأنبياء نحو أبي إبراهيم وابن نوح عليهما السلام لأن ذكر هاتين المرأتين لم يتقدم.
وقد تقدم ذكر أبي إبراهيم وابن نوح، لتكون في ذكرهما فائدة مستجدة، وليكون في ذكرهما عقب ما سبق من تمالُؤِ أُمي المؤمنين على زوجهما صلى الله عليه وسلم تعريض لطيف بالتحذير من خاطر الاعتزاز بغناء الصلة الشريفة عنهما في الوفاء بحق ما يجب من الإِخلاص للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون الشّبه في التمثيل أقوى.
فعن مقاتل يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم.
ووضحه في (الكشاف) بأنه من قبيل التعريض.
ومنعه الفخر، وقال ابن عطية: قال بعض الناس في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن. وفي هذا بُعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا. اهـ.
ويدفع استبعاده أن دلالة التعريض لا تنافي اللفظ الصريح، ومن لطائف التقييد بقوله تعالى: {للذين كفروا} أن المقصد الأصلي هو ضرب المثل للذين كفروا وذلك من الاحتراس من أن تحمل التمثيل على المشابهة من جميع الوجوه والاحتراس بكثرة التشبيهات ومنه تجريد الاستعارة.
وقصة امرأة نوح لم تذكر في القرآن في غير هذه الآية والذي يظهر أنها خانت زوجها بعد الطوفان وأن نوحا لم يعلم بخونها لأن الله سمى عملها خيانة.
وقد ورد في سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذِكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوي ذكرها لما ذكر الله بركته نوحا وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجه.
فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحا تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر في التوراة.
ووصف الله فعل امرأة نوح بخيانة زوجها، فقال المفسرون: هي خيانة في الدين، أي كانت كافرة مسرة الكفر، فلعل الكفر حدث مرة أخرى في قوم نوح بعد الطوفان ولم يذكر في القرآن.
وأما حديث امرأة لوط فقد ذكر في القرآن مرات.
وتقدم في سورة الأعراف ويقال: فلانةُ كانت تحت فلان، أي كانت زوجا له.
والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة والعصمة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في (الموطأ) وفي (صحيح البخاري) عن أم حرام بنت ملحان: (وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت).
ومن بدائع الأجوبة أن أحد الأمراء من الشيعة سأل أحد علماء السنة: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه: (الذي كانت ابنتُه تحته) فظن أنه فضل عليا إذْ فهم أن الضمير المضاف إليه (ابنة) ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الضمير المضاف إليه (تحت) ضمير اسم الموصول، وإنما أراد السنيّ العكس بأن يكون ضمير (ابنته) ضمير الموصول (تحته) ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك هو أبو بكر.
وقد ظهر أن المراد بالعبدين نوح ولوط وإنما خصّا بوصف {عبدين صالحين} مع أن وصف النبوة أخص من وصف الصلاح تنويها بوصف الصلاح وإيماء إلى أن النبوة صلاح ليعظم بذلك شأن الصالحين كما في قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} [الصافات: 112].
ولتكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن أزواجهن فإن وصف النبوءة قد انتهى بالنسبة للأمة الإِسلامية، مع ما في ذلك من تهويل الأذى لعباد الله الصالحين وعناية ربهم بهم ومدافعته عنهم.
والخيانة والخون ضد الأمانة وضد الوفاء، وذلك تفريط المرء ما اؤتمن عليه وما عهد به إليه.
وقد جمعها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27].
وانتصب {شيئا} على المفعولية المطلقة ل {يغنيا} لأن المعنى شيئا من الغنى، وتنكير {شيئا} للتحقير، أي أقل غنى وأجحفه بلْه الغنى المهم، وتقدم في قوله تعالى: {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} في سورة [الجاثية: 19].
وزيادة {مع الداخلين} لإِفادة مساواتهما في العذاب لغيرهما من الكفرة الخونة.
وذلك تأييس لهما من أن ينتفعا بشيء من حظوة زوجيهما كقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} [الأنعام: 22].
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا امْرأت فِرْعوْن}
لما ضرب المثل {للذين كفروا} [الممتحنة: 10] أعقب بضرب مثل للذين آمنوا لتحصل المقابلة فيتضح مقصود المثلين معا، وجريا على عادة القرآن في إتباع الترهيب بالترغيب.
وجعل المثل للذين آمنوا بحال امرأتين لتحصل المقابلة للمثلين السابقين، فهذا من مراعاة النظير في المثلين.
وجاء أحد المثلين للذين آمنوا مثلا لإِخلاص الإِيمان.
والمثل الثاني لشدة التقوى.
فكانت امرأة فرعون مثلا لمتانة إيمان المؤمنين ومريم مثلا للقانتين لأن المؤمنين تبرأوا من ذوي قرابتهم الذين بقوا على الكفر بمكة.
وامرأة فرعون هذه هي امرأة فرعون الذي أُرسل إليه موسى وهو منفط الثالث وليست امرأة فرعون التي تبنتْ موسى حين التقطتْه من اليمّ، لأن ذلك وقع في زمن فرعون رعمسيس الثاني وكان بين الزمنين ثمانون سنة.
ولم يكن عندهم علم بدين قبل أن يرسل إليهم موسى.
ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون فكانت مؤمنة برسالة موسى عليه السلام.
وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى، أو تكون هداها الله إلى الإِيمان بموسى كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي تقدم ذكره في سورة غافر.
وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آسية في قوله: «كمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريمُ ابنة عمران وآسيةُ امرأة فرعون» رواه البخاري.
وأرادت بعمل فرعون ظلمه، أي نجّني من تبعة أعماله فيكون معنى {نجّني من فرعون} من صحبته طلبت لنفسها فرجا وهو من عطف الخاص على العام.
ومعنى {قالت} أنها أعلنت به، فقد روي أن فرعون اطّلع عليها وأعلن ذلك لقومه وأمر بتعذيبها فماتت في تعذيبه ولم تحس ألما.
والقوم الظالمون: هم قوم فرعون.
وظلمهم: إشراكهم بالله.
والظاهر أن قولها: {ابن لي عندك بيتا في الجنة} مؤذن بأن فرعون وقومه صدّوها عن الإِيمان به وزيّنوا لها أنا إن آمنت بموسى تضيع ملكا عظيما وقصرا فخيما أو أن فرعون وعظها بأنها إن أصرّت على ذلك تقتل، فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه لدفنه في بادئ الملوك.
ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درّة واحدة فتكون مشابهة الهرم الذي كان معدّا لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها.
فقولها ذلك كقول السحرة الذين آمنوا جوابا عن تهديد فرعون {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض} الآية في سورة [طه: 72].
{ومرْيم ابْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا}
عطف على {امرأت فرعون}، أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران، فضرب مثليْن في الشرّ ومثلين في الخير.
ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها، وقد ذكر الله باسمها في عدة مواضع من القرآن، وقال ابن التلمساني في (شرح الشفاء) لعياض: لم يذكُر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم للتنبيه على أنها أمةُ الله إبطالا لعقائد النصارى.
والإِحصان: جعل الشيء حصينا، أي لا يُسلك إليه. ومعناه: منعت فرجها عن الرجال.
وتفريع {فنفخنا فيه من روحنا} تفريع العطية على العمل لأجله.
أي جزيناها على إحصان فرجها، أي بأن كوّن الله فيه نبيئا بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات.
والنفخ: مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكوّن في رحمها.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحيّ في رحمها كان دون الأسباب المعتادة، أو أُريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة، فعلى الأول تكون {من} تبعيضية، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وتقدم قوله تعالى: {فنفخنا فيها من روحنا} في سورة [الأنبياء: 91].
وتصديقها: يقينها بأن ما أبلغ إليها الملكُ من إرادة الله حملها.
{وكلمات ربها}: هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي.
و{وكتابه} يجوز أن يكون المراد به (الإِنجيل) الذي جاء به ابنها عيسى وهو إن لم يكن مكتوبا في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم.
ويجوز أن يراد بـ {كتابه}، أراده الله وقدّره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتابا مفعولا.
والقانت: المتمحض للطاعة.
يجوز أن يكون و{من} للابتداء.
والمراد بالقانتين: المكثرون من العبادة.
والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف....
وهل ينبت الخطِّيُّ إلا وشيجهُ

وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت.
وهذا نظير قوله تعالى: {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون} [النور: 26].
ويجوز أن تجعل {من} للتعبيض، أي هي بعض من قنت لله.
وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل: من القانتات، جريا على طريقة التغليب وهو من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر.
وهذه الآية مثال في علم المعاني.
ونكتته هنا الإِشارة إلى أنها في عداد أهل الإِكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة.
ووصفت مريم بالموصول وصلته لأنها عُرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة.
وفي ذكر {القانتين} إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] الآية.
وقرأ الجمهور {وكتابه}.
وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب {وكُتُبه} بصيغة الجمع، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي (التوراة) و(الزبور) وكتب الأنبياء من بني إسرائيل، و(الإِنجيل) إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها. اهـ.